ورقة نقاشية بعنوان: الصحافة في العصر الرقمي ..الفرص والتحديات - أرض المملكة

0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف
جو 24 :

الورقة النقاشية بعنوان: الصحافة في العصر الرقمي ..الفرص والتحديات

الإعداد :باسل العكور

ضمن مشروع المبادرات المستقلة "أصوات من الجنوب "

بتنفيذ من مدرج لريادة الإعلام الرقمي

و

بدعم من معهد الجزيرة للإعلام

كانون أول 2024

Disclaimer

المقدمة

مع التطورات التكنولوجية الهائلة والمتسارعة التي شهدها العالم في السنوات الأخيرة تضاعفت المعرفة البشرية، وتطورت وسائل وأساليب تعلمها وتعليمها وحفظها وتداولها. وقد أدى تغلغل التكنولوجيا الحديثة في كل المجالات إلى تغيير حاسم في طبيعة الخدمات والمنتجات والمعارف.

و بالرغم من تزايد التحديات التي تواجهها المؤسسات الإعلامية في يومنا هذا، إلا أن الفرص عالمياً تتجه نحو تطوير نماذج أعمال قابلة للاستدامة في المؤسسات الإعلامية ضمن النموذج المعروف المرتكز على المستخدم و المدفوع في التكنولوجيا (Technology-Driven and User- Oriented)، ففي السنوات الخمس الماضية، غادر عدد كبير من الجمهور وأصحاب الاشتراكات الوسائل التقليدية إلى منصات الإنترنت. في حين أنه، ومع التحول الرقمي السريع للاقتصاد العالمي، من المتوقع أن يعتمد 70% من القيمة الجديدة التي سيتم خلقها في العقد المقبل على نماذج الأعمال القائمة على المنصات الرقمية.

فقد أحدث الاقتصاد الرقمي تحولًا جذريًا في قطاع الإعلام في خمس محاور رئيسية ، وهي التسريع والإنتاجية، فقد أدت التقنيات الرقمية إلى تسريع إنتاج المحتوى وتوزيعه بشكل كبير. ومن ناحية التخصيص باستخدام البيانات الضخمة والذكاء الاصطناعي، أصبحت شركات الإعلام قادرة على تحليل سلوك المستخدمين وتقديم محتوى مخصص لهم بشكل أكثر دقة، مما يزيد من رضاهم. ومن ناحية حماية الملكية الفكرية بتوفر تقنية البلوكتشين (Blockchain) حماية أفضل لحقوق الملكية الفكرية لصناع المحتوى، وتضمن توزيع العائدات بشكل عادل. ومن ناحية تنويع مصادر الدخل حين انتقلت شركات الإعلام من الاعتماد على الإعلانات والاشتراكات التقليدية إلى تنويع مصادر دخلها لتشمل الإعلانات الرقمية digital advertising والاشتراكات المدفوعة paid subscriptions والتجارة الإلكترونية E-Commerce والشراكات التجارية Brand Corporation، و أخيراً من ناحية العولمة، بحيث ساهم الإنترنت في انتشار المحتوى الإعلامي على نطاق واسع، مما زاد من جمهور وسائل الإعلام ونفوذها عالمياً. باختصار، لقد غير الاقتصاد الرقمي الطريقة التي ننتج ونستهلك ونوزع المحتوى الإعلامي. وقد أدى هذا التحول إلى فرص جديدة وتحديات جديدة لقطاع الإعلام.

وفي الوقت الراهن، لم تبدأ هذه التحولات بعد جائحة كورونا فحسب، ولكن عززت الجائحة الاتجاهات القائمة أصلاً مثل انخفاض إيرادات الإعلانات، وفقدان الوظائف، وإغلاق غرف الأخبار. بحيث يشير تقرير اليونسكو (2022) إلى بيانات من المركز الدولي للصحفيين، التي تُظهر أن ثلثي الصحفيين يشعرون بانخفاض مستوى الأمان الوظيفي نتيجة للضغوط الاقتصادية الناجمة عن الجائحة ، الأمر الذي خلق ذلك فراغاً كبيراً في المشهد الإعلامي، خاصة في دول الجنوب العالمي.

و في الأردن، تتزامن هذه التحديات مع محاولات للإصلاح الاقتصادي و الإداري و السياسي من جهة الحكومات المتعاقبة، و انقسام المشهد الإعلامي المحلي حول متمسك في تقاليد المهنة وحق النقد ضمن الوسائل التقليدية، متأثراً في التشريعات المتعلقة في الجرائم الإلكترونية، و بين قسم آخر يحاول البحث عن بدائل للاستفادة من الفرصة الاقتصادية المرافقة للتحول الرقمي في المؤسسات الإعلامية و الانتقال كلياَ إلى منصات الإنترنت، متأثراً بشكل أكبر في الواقع الإقتصادي و احتياجات التحول التقنية و الإدارية.

وعليه فإن هذه ليست المرة الأولى التي يضطر بها العاملون في مهنة الصحافة التجاوب مع تحولات بنيوية تطرأ على مهنتهم -في أدواتها ولغتها وأنماطها وأشكالها المختلفة- وهذه التحولات تستوجب درجة عالية من المرونة و الابتلاع والهضم .. ففي كل محطة نتوقع أننا وصلنا ذروة المعرفة ، وبتنا ممسكين بمفاتيح المهنة بعد استيعاب هذه المتغيرات المستحدثة ، لنستيقظ في اليوم التالي على وقع تحولات جديدة وتطورات أكثر تعقيدا وتأثيرا ومساسا بعملنا اليومي، تعيدنا للمربع الأول ..وهكذا دواليك، فمن الصحفي التقليدي المتحصن برصيد كبير من المعرفة والخبرة واللغة إلى الصحفي المتخصص أو القطاعي ثم الصحفي الشامل " الذي يجمع بين التقليدي والأدوات الحديثة " ، ثم صحفي البيانات وبعدها الصحفي الإلكتروني، ثم صحافة الهاتف والتطبيقات ، والآن نصل الى الصحفي الروبوتي* . وبلا شك هناك الكثير من المحطات التي لم نقف عندها في هذه العجالة، لأن العاملين في المؤسسات الصحفية تمكنوا - كما يبدو- من إدراكها وإدماجها دون أن تشكل معضلة معرفية في وقت ظهورها على الساحة.

المحصلة ، أن الثابت الوحيد في المهنة هو ضرورة التطور والتحديث والحركة المستمرة الدؤوبة لتوظيف التكنولوجيا في خدمة الإعلام .

المشكلة البحثية وأهميتها:

تواجه الصحافة في الجنوب العالمي—وهي منطقة تشمل الدول النامية في إفريقيا، آسيا، وأمريكا اللاتينية—أزمة بنيوية ومعرفية تتعلق بفهم واستيعاب والتجاوب مع حجم التحولات التي طرأت في شكل وبنية العمل الصحفي في حقبة التحول الرقمي ، وتُعزى هذه الأزمة إلى مجموعة من العوامل الثقافية، والاقتصادية، والسياسية التي تعيق إنتاج محتوى صحفي يعكس القضايا المحلية بعمق وموضوعية بأشكال وأنماط جديدة بات استخدامها شرطا اساسياً لوصالها للناس وتأثيرها بهم.

المشكلة التي نحن بصدد تسليط الضوء عليها هي أن وسائل إعلام الجنوب تريد فعلا تحولا وانتقالاً آمناً وسريعاً للحقبة الرقمية ولكنها لا تعرف متطلبات هذا التحول ولا تدرك شروطه ،تريد تحولا ولكنها متمسكة بالقوالب التقليدية وترفض أن تتعاطى مع المتغيرات ، تريد انتقالا ولكنها متشبثة بأبوية في العمل الصحفي عفى عليها الزمن ،تريد انتقالا دون تشاركية مع الجمهور ،يريدون تحولا دون كلف وتنازلات وتطوير وتدريب وتحديث وتغيير في البنى والمفاهيم .

أبرز ملامح الأزمة:

1.ضعف معرفة القيادات الصحفية في إعلام الجنوب بمتطلبات التحول الرقمي وفي أحيان كثيرة ممانعتهم لأنماطه المختلفة .

2.التبعية للمصادر الغربية: حيث تعتمد العديد من المؤسسات الإعلامية في الجنوب العالمي على وكالات الأنباء الغربية، مما يؤدي إلى هيمنة روايات دول الشمال العالمي على الأخبار. هذا يخلق صورة مشوهة أو غير مكتملة للأحداث، ويقلل من التركيز على القضايا المحلية التي تهم المجتمعات في الجنوب.

3.ضعف الموارد الاقتصادية: حيث تعاني معظم وسائل الإعلام في هذه الدول من نقص التمويل، مما يحد من قدرتها على إنتاج تقارير استقصائية معمقة. الموارد المحدودة تؤدي إلى الاعتماد على تغطيات سطحية أو تقارير مقتضبة، بدلًا من القصص الصحفية المفصلة.

4.غياب التدريب والتكنولوجيا: حيث يواجه الصحفيون في الجنوب تحديات تتعلق بالتدريب المهني، وقلة الوصول إلى التكنولوجيا الحديثة. هذا يعوق قدرتهم على تقديم رواية صحفية مهنية منافسة للإعلام الدولي.

5.التدخلات السياسية: ففي الكثير من دول الجنوب العالمي، تتدخل الأنظمة السياسية في عمل الصحفيين، مما يحد من حريتهم في تغطية قضايا معينة. يؤدي ذلك إلى غياب التعددية في الرواية الصحفية، ويترك الجمهور أمام رواية واحدة غالبًا ما تكون منحازة.

الأسئلة النقاشية:

سعت هذه الورقة النقاشية من خلال مراجعة الأدبيات أو عبر مجموعة الضبط وتحليل مضمون ما جاء فيها للإجابة عن الأسئلة التالية:

● وكيف يمكن تطوير بيئة قانونية تدعم حرية الصحافة الرقمية؟

● ما هي أبرز التحديات التي تواجه الصحفيين في التحول نحو الصحافة الرقمية؟ وكيف يمكن الاستفادة من التكنولوجيا الحديثة مثل الذكاء الاصطناعي في تطوير الممارسات الصحفية؟ وما هو دور المعاهد والجامعات ومراكز التدريب والمجتمع المدني في دعم هذا الانتقال؟

● كيف يمكن للصحافة الرقمية العربية أن تلج الحقبة الرقمية وتطور نماذج أعمال مستدامة؟ وما دور التمويل المستقل والدعم الدولي في تعزيز استقلالية الصحافة الرقمية؟

● كيف تغيرت عادات الجمهور في استهلاك الأخبار مع انتشار الرقمنة؟ وما أثر وسائل التواصل الاجتماعي على مصداقية الصحافة التقليدية؟

● ما هو تأثير التحول الرقمي على استقلالية المؤسسات الإعلامية؟ وكيف يمكن تحقيق توازن بين حرية الصحافة والمسؤولية المهنية في العصر الرقمي؟

الأهمية والأهداف:

تهدف هذه الورقة البحثية لتحديد وتفكيك التحديات التي تواجه استدامة الصحافة المستقلة في ظل عصر الرقمنة والتحول في نماذج الأعمال وتطور العلاقة الاتصالية التي رافقت ثورة المعلومات والتكنولوجيا.

وتأتي أهمية هذه الورقة في هذا التوقيت، نتيجة حاجتنا الماسة لتشخيص واقع الإعلام العربي والتحديات التي يواجهها في مواكبة التطورات المتسارعة التي تشهدها مهنة الصحافة في دول الشمال من حيث الشكل والأدوات المستخدمة ، هي محاولة لتشخيص واقع إعلام الجنوب الذي يخوض حربا إعلامية لا متناظرة مع دول الشمال التي تمتلك العدة والعتاد والتكنولوجيا والمال لضمان وصول سرديتها وسيادة روايتها .

إعلام الجنوب يخوض حربا وجودية ومنافسة غير متكافئة مع إعلام الشمال الطامح بالهيمنة والسيطرة وإلغاء الآخر وإنهاء حضوره وتأثيره ، ومن هنا تأتي أهمية هذه الدراسة والحاجة للخروج من حالة الإنكار التي تعيق الحركة إلى حالة اشتباك حقيقة تكفل استئثارها بجمهورها .

يشهد العالم العربي تحولات رقمية شديدة التعقيد ، تلقي بظلالها على المشهد الصحفي والإعلامي بشكل غير مسبوق. تشير الدراسات إلى أن الرقمنة، باعتبارها عملية تحويل المعلومات إلى صيغة رقمية، ليست مجرد تقنية بل تُعد عاملًا محوريًا يعيد تشكيل بنية الصحافة، من حيث الإنتاج، والتوزيع، والاستهلاك.

ووفقًا لتقرير "الاتحاد الدولي للاتصالات" لعام 2023، تجاوزت نسبة انتشار الإنترنت في المنطقة العربية 70%، مع اختلافات كبيرة بين الدول، مما يفتح آفاقًا واسعة أمام الصحافة الرقمية، لكنه يطرح في الوقت نفسه تحديات قانونية واقتصادية عميقة.

تواجه الصحافة العربية تحديات مركبة تتعلق باستقلالية الإعلام وحرية الصحافة. وفقًا لتقرير "مراسلون بلا حدود" لعام 2023، حيث تحتل معظم الدول العربية مراكز متأخرة في مؤشر حرية الصحافة، حيث يُعاني الصحفيون من قيود تنظيمية وتشريعية تُعيق أدائهم، إضافةً إلى تهديدات تتعلق بالرقابة الإلكترونية والتضييق على حرية التعبير. كما يبرز الجانب الاقتصادي كعامل ضاغط، في ظل تقلص موارد الإعلان التقليدي، وتراجع نماذج الأعمال الصحفية القديمة أمام المنصات الرقمية وشبكات التواصل الاجتماعي. حيث يشكل المستخدمون العرب ما لا تزيد نسبته عن ٤،٨٪ من إجمالي الاستخدام العالمي للانترنت ، يأتون عبر استخدام 155 مليون شخص من أصل 315 مليون عربي وينتجون 3% فقط من المحتوى على الإنترنت باللغة العربية.

أداة جمع المعلومات:

استندت هذه الورقة البحثية على استخدام المنهج الوصفي التحليلي لتحديد المشكلة وتشخيصها وتقديم حلول وتوصيات من شأنها أن تعالج الاختلالات وتملأ الفراغات والفجوات. أما عملية جمع البيانات فتمت بشكل أساسي من خلال أداة بحثية ترتكز على إسهامات مباشرة من نخبة من أصحاب الاختصاص ، مجموعة ضبط متخصصة مكونة من 22 شخصاً يمثلون قطاعات: الصحافة المكتوبة والمرئية والمسموعة، الصحافة الرقمية والبودكاست، التسويق الرقمي، مستثمرون ومنتجون، مجتمع مدني ومحامون. شكلت نسبتهم 45% نساء و 55% رجال ومن الفئة العمرية 25-55 عاماً.

المصطلحات والمفاهيم:

●الصحفي الروبوتي : هو الصحفي الذي يعتمد على الذكاء الاصطناعي في اختيار المادة الصحفية ، ونقصد هنا الموضوعات التي تشغل الرأي العام ، الصحفي الروبوتي يجلس في مكتبه أو منزله ، يحدد له الذكاء الاصطناعي الموضوع ، ويعتمد على الذكاء الاصطناعي ومحركات البحث ووسائط التواصل الاجتماعي في جمع المعلومات والبيانات المتعلقة بهذا الموضوع ، وربما تحليلها وتبويبها أيضاً ، كما يعتمد على الذكاء الاصطناعي في ترجمة المعلومات من لغات مختلفة ، وفي رسم البيانات وإعداد الفيديوهات والبوربوينت و ألبوم الصور ،وفي تقييم المعلومات وفحص دقتها وموثوقيتها ( fact checking )، وفي التحرير والتدقيق اللغوي عن طريق برمجيات القوالب اللغوية المتكررة * ، ومن ثم في نشرها وتسويقها وترويجها وتقييم التغطية الراجعة وردود الفعل.

●التحول الرقمي في الصحافة : استخدام التقنيات الحديثة والتكنولوجيا بمختلف وسائطها وأدواتها وبرامجها وتطبيقاتها في سرد القصص الصحفية، و توظيف الذكاء الاصطناعي في العمل الصحفي يكون من خلال إنشاء برامج لإعداد التقارير الصحفية وكتابتها .

●برمجيات القوالب اللغوية المتكررة : هي برمجيات يتم انشاؤها في المؤسسات الصحفية لتحرير الأخبار المتكررة والتي تستخدم بها ذات القوالب اللغوية ونحن هنا نتحدث على سبيل المثال عن الأخبار المتعلقة بالحروب والكوارث الطبيعية والأخبار الرياضية وأخبار الطقس.

●ديكتاتورية الخوارزميات : الخوارزميات هي برمجيات وضعت لتحقيق أهداف معينة ، وهذه البرمجيات تحدد الشركات من خلالها ما ينشر ويصل للناس وما يجري إهماله و تغييبه .وتشمل الخوارزميات تنفيذ كافة المهام الحسابية المنطقية البسيطة والمعقدة وصولاً إلى فلترة كافة الكلمات التي يدخلها المستخدمون في محركات البحث وربطها بنوعيات محددة من المحتوى.حتى أصبحت كائنات مستقلة موازية للإنسان في التحكم في العالم الذي نعيش فيه.

●هندسة الجمهور : التأثير على العقل غير الواعي للجمهور من خلال عمليات اتصالية ذات أبعاد نفسية وسياسية واجتماعية تستخدم بها تقنيات الإقناع لتحقيق أهداف معين او قصف الجمهور برسائل مضللة تتلاعب بقناعات لخدمة قضايا بعينها .(جوزيف كبلر ،و ادوارد بيرنز )

المحور الأول:

أهمية التحول الرقمي وتحديات استدامة العمل الصحفي المستقل

ونحن منهمكون في التعاطي الدائم مع هذه المتغيرات الفنية التي تلقي بظلالها الثقيلة على العمل الصحفي اليومي وانسياب المعلومات والأخبار ، يجب أن لا يغيب عن بالنا جوهر الصراع والأزمة المتعلقة باستقلال المؤسسات الصحفية وتحريرها من سطوة الحكومات ورأس المال ، وعلاقة ذلك بشكل مباشر بالتجاوب مع مقتضيات التحول الرقمي* .

وهنا علينا أن نفكر بعمق في أثر التحول الرقمي على استقلال المؤسسات الصحفية ، إذا ما أخذنا بعين الاعتبار أن عملية التحول تحتاج لإمكانات مالية كبيرة ، ناهيك عن هيمنة رأس المال على العالم الافتراضي وصناعة التكنولوجيا ، في وقت نشهد به عمليات تسليع غير مسبوقة للمعلومات والبيانات وانتهاك الخصوصيات ،وعبث بالآراء والاتجاهات ، وتدخل مباشر بتحديد الأولويات ، وهذا ما يعرف بدكتاتورية الخوارزميات* .

الحكومات في صراعها للهيمنة على عملية صناعة الرأي العام تحالفت مع رأس المال ، وكلاهما يشتغلان على تهميش الإعلام وخنق صوته وتعطيل قدرته على التأثير والتنوير والتشكيل ..يبدو أن التكنولوجيا باتت واحدة من أكثر وسائل السيطرة وإدارة الصراع وإلغاء دور الإعلام و شل ماكينته.

أهمية التحول الرقمي في الصحافة العربية: يعد التحول الرقمي واحدًا من أبرز الظواهر التي غيرت ملامح المشهد الإعلامي في العالم العربي خلال العقدين الأخيرين. مع تزايد انتشار الإنترنت والتطور السريع في التكنولوجيا الرقمية، أصبح من الضروري أن تتكيف المؤسسات الصحفية مع متطلبات العصر الرقمي، ليس فقط لضمان بقائها، بل أيضًا لتعزيز قدرتها على المنافسة والاستمرار في تقديم محتوى موثوق. التحول الرقمي هو عملية دمج التقنيات الرقمية في جميع جوانب العمل الصحفي، بدءًا من جمع المعلومات وتحريرها، وصولًا إلى توزيع المحتوى وتفاعل الجمهور معه. ونخص بالذكر هنا الجوانب التالية:

1.توسيع نطاق الوصول: بفضل الرقمنة، أصبح بإمكان وسائل الإعلام الوصول إلى جمهور أوسع يتجاوز الحدود الجغرافية. تمكن المنصات الرقمية المؤسسات الإعلامية من نشر الأخبار والمحتوى بشكل لحظي، مما يعزز التفاعل ويخلق فرصًا جديدة للتواصل مع فئات مختلفة من الجمهور، خاصة الشباب الذين يعتمدون بشكل كبير على الوسائل الرقمية للحصول على الأخبار.

2.تعزيز التعددية وتنوع المحتوى: أتاحت الأدوات الرقمية إمكانية إنتاج محتوى متنوع، سواء كان مرئيًا أو صوتيًا أو مكتوبًا، وهو ما يساعد في جذب شرائح مختلفة من الجمهور. كما أن منصات التواصل الاجتماعي والمدونات زادت من الأصوات المستقلة، مما أدى إلى إثراء المشهد الإعلامي.

3.خفض التكاليف التشغيلية: مقارنة بالإعلام التقليدي، تُعتبر الصحافة الرقمية أقل تكلفة من حيث الإنتاج والتوزيع، مما يتيح للصحف المستقلة الصغيرة أو الناشئة فرصة الاستمرار والمنافسة.

4.تعزيز الشفافية والمساءلة: توفر التقنيات الرقمية، مثل أدوات التحقق من المعلومات والتقارير المباشرة، فرصًا أكبر للتحقيقات الصحفية المستقلة، ما يعزز من دور الصحافة في تعزيز الشفافية وكشف الفساد.

 

المحور الثاني:

التحديات التي تواجه التحول لعصر الرقمنة

في عالم تنحصر فيه القيمة لصالح المادة ، ويهيمن به رأس المال على كل شئ حتى وسائل الإعلام ووكالات الأنباء العالمية الأوسع انتشاراً ، بات بقاء واستمرار الإعلام المستقل أكثر صعوبة و تعقيداً، فالمكاسب المتدرجة للحكومات على حساب الإعلام عزز من مطامح الأولى في السيطرة المطلقة على وسائل الإعلام وإدخالها جميعاً في بيت الطاعة الرسمية ، عملية الإضعاف والقضم التدريجي من خلال جملة من الوسائل من بينها التشريعية والاقتصادية والفنية التقنية والمعلوماتية والنقابيّة ساهمت في مزيد من الأضعاف لدور الإعلام المستقل وشروط بقائه.

تحديات بقاء الإعلام المستقل المهني وقدرته على التأثير تزداد شراسة ،حتى أن قيامهم بأبسط الأدوار بات تحدياً كبيراً بحد ذاته ، فلقد ضاق عليهم الفضاء بما رحب ،وسحب اوكسيجين الحرية تماماً من الأجواء .. وفي هذا السياق المعتم لا ضير من استعراض نقطي لأبرز المعيقات التي تحول دون تحول الإعلام لعصر الرقمنة:

أولاً: حالة الحريات العامة:

●تحديات تشريعية ، قوانين تقيد حرية الإعلام والتعبير ، وهي عقبة كأداء تحول دون إمكانية توظيف الأدوات الرقمية في العمل الصحفي ، وهنا نتحدث عن تشريعات أعادت العاملين في وسائل الإعلام خطوات إلى الخلف خوفاً من الملاحقة القانونية على شبكات التواصل الاجتماعية والتطبيقات الذكية .

●المحددات المتعلقة بحق الحصول على المعلومات ، حيث تلجأ الحكومات لاستخدامها كأداة من أدوات الإغراء والاحتواء ، تغدق بها على وسائل الإعلام الودية ، التي تعتبرها معاقل لتسويق وجهة نظرها ، وتمنعها تماما أو للدقة تحجبها عن وسائل الإعلام المستقلة لتضاعف من عزلتها .

●أما عن الأطر النقابيّة للعاملين في مهنة المتاعب والعنت ، فجلها تحول إلى أدوات بيد السلطات ، وما عادت معنية بمعالجة الاختلالات أو مواجهة التحديات .

ثانياً: الرقمنة ونماذج الأعمال الجديدة كتحد أمام المؤسسات الصحفية: الفهم والتأطير

●لا تصور واضح للتحول الرقمي ، لا قيادات إعلامية قادرة على قيادة التحول وفهم كنهه وأهميته .

●الصراع بين التقليدي والحديث الرقمي ، ممانعة من قبل الصحفيين التقليديين للتحول واعتباره خطرا محدقا ، ونسفا للصحافة كما يعرفون ، الحساسية المفرطة تجاه الرقمنة في مواجهة الهوس والوسواس القهري المفرط للتحول بغض النظر عن الكلفة المهنية.

●تحدي الاستدامة مالياً، وإيجاد نماذج أعمال تتيح لوسائل الإعلام فرص البقاء والنمو والتطور والتحول .

●هناك عقبات متعلقة برفض قطاع كبير من العاملين بذات القطاعات الصحفية الاندماج والتحول لقوة إعلامية تستفيد من مساهمات اكثر من طرف واحد - مؤسسة صحفية واحدة- لتقديم محتوى جاذب ومختلف ، وتكوين نموذج أعمال قابل للبقاء . هو تحدي له علاقة بضرورة محو الأمية التكنولوجية والتجاوب الإيجابي مع هذه الثورة التقنية الهائلة .

●وهناك ايضاً تحدي إدارة الابتكار الإعلامي على نحو يضمن التحول الرقمي وفهم ما تحتاجه غرف الأخبار من أدوات وإمكانات ومؤهلات للمضي في هذه الخطوة المهمة ، تمهيدا لعبور العتبة بين التسويق وغرف الأخبار .. فلا يمكن العثور على المعرفة المتطورة المتجددة في نماذج أعمال أو إدارات متمسكة بمفاهيم واطر ستاتيكية مجردة .

يبقى الحديث عن التحدي الأهم وهو المحافظة على الأعراف والتقاليد والمبادئ الصحفية الراسخة ونحن ماضون نحو التحول الرقمي ، واستخدام أدوات الذكاء الاصطناعي في غرف الأخبار، على المديرين إدارة هذه العملية بغاية الحرص مع حاجتهم لكسر الروتينيات ، عليهم التمسك بالحرفية والدقة والحياد والموضوعية والتحقق والتوازن وهم يسابقون الزمن لإنتاج محتوى مختلف وجاذب وجديد بأنماط متطورة ومستحدثة وعصرية.

ثالثاً: الصحافة كصناعة: تحديات رأس المال والكلف

●الحاجة لإمكانات مالية غير متاحة للكثير من وسائل الإعلام العربية ، فالكلف عالية والمداخيل متدنية

●علاقة الدولة ورأس المال بالإعلام ومحاولات السيطرة والاحتواء المستمرة ، التي تعيق التحول وتتسبب في ضرب مصداقية وسائل الإعلام ،وعندها لن تنجح اية محاولات أو تحولات بانقاذ هذه المؤسسات الصحفية .

رابعاً: الصحافة: العلاقة بين الأكاديمية والتدريب وفجوات سوق العمل

●تحدي يتعلق بمخرجات العملية التعليمية على مستويين: الأول الأساسي المدرسي والثاني الجامعي .والحاجة الملحة للتوفيق بين الأكاديميا وسوق العمل .

●تحدي تدريب العاملين في مهنة الصحافة وتأهيلهم ، وتعريفهم بأدوات التحول الرقمي ، وربما هنا نتوقف عند نقطة مدى استعداد العاملين في مهنة الصحافة للتعلم والقبول بضرورة التحول نحو العصر الرقمي .

●وهناك تحديات متعلقة بفوقية ومركزية مؤسسات المجتمع المدني والجهات المانحة التي لا تدرس الحالات المحلية ، وتحاول إسقاط قوالب جاهزة مستوردة لا يمكن لها ان تنجح في منطقتنا العربية ، فعند الحديث مثلا عن جدران الحماية والاشتراكات الإلكترونية وتسويق المحتوى الكترونياً كل هذا لا يستقيم في مجتمعات اعتادت الحصول على الأخبار والتغطيات مجاناً.

خامساً: العلاقة مع الجمهور والمنصات

●تحدي المحتوى ، وهنا نتحدث عن التغطيات اليومية التي تخلو من التفرد والحصرية والتميز والإبداع ، الإعلام ينشر المتاح والمتوقع والممكن وينسى أن وظيفته هو النقيض من كل ذلك

●عدم الاهتمام بشرائح كبيرة من المجتمع أثناء التغطية ، وهنا نتحدث عن من هم دون ١٨ عاماً .

●التحدي المتعلق بالتسويق الإلكتروني للمحتوى الجيد ، الكيفية والأشكال والأنماط المتنوعة ..

●لدينا محدد متعلق باستيعاب وفهم التغير الذي يطرأ في ثقافة المستهلك للأخبار ، وكيف أن الشاشة باتت بديلاً للورق، وأن المستهلك يمكنه تخصيص ما يستهلكه وفقا لذوقه الشخصي وهذا بالضرورة ينطبق على الأخبار . المستهلك لم يعد مستعدا لشراء الصحف ذات الأخبار مسبقة الاختيار ،وهو يشي بتحول بنيوي في طبيعة السلطة الرابعة وكيف أن مفهومها تغير، فلا بد من التشارك مع الجمهور أو رصد ما يهمه ويبحث عنه من أخبار قبل الطباعة أو النشر . وهذا يتطلب أيضاً معرفة الوقت الذي يقضيه الجمهور في القراءة .

●رفاهية الاعتماد على البيانات الجاهزة ،لم تعد مقبولة ، هذا ما يجب أن تدركه وسائل الإعلام ، لم يعد ممكناً الاعتماد كلياً على شركات تحليل البيانات الموجهة أو مراكز الدراسات ذات الأجندات السياسية ،وهي الجهات التي تسعى لإنتاج تشويه تواصلي منهجي ، يساهم في تضليل الرأي العام ، وتوجيه انحيازاته والعبث بقناعاته ، المطلوب هو التحقق العلمي الدائم من الأرقام والبيانات التي تنشر ،وذلك حتى لا تضرب مصداقية وسائل الإعلام ، وهذا كسر أو صدع لا يمكن رأبه ، وهنا ندلل على ما كانت تنشره وسائل الإعلام الأمريكية عن تفوق مترشحة الرئاسة الديمقراطية في استطلاعات الرأي ، ليتبين فيما بعد أنها متاخرة تماماً ، وأن حزبها قد خسر الأغلبية في الكونغرس بغرفتيه .

●أما عن سطوة الخوارزميات ،أو ما يعرف بدكتاتورية الخوارزميات ، فحدث ولا حرج عن حجم العبث الذي تمارسه إدارات هذه الشركات الكبرى وكيف أنها تبرع في هندسة الجمهور * والتسطيح والتسخيف ، والانتقائية والعبث في اتجاهات الرأي العام ، وتغييب الجوهري والمهم ، وهنا نتحدث عن محركات البحث وشبكات التواصل الاجتماعي على وجه التحديد .

هذا هو واقع حال صحافتنا ، وغيض من فيض التحديات التي تحول دون بقائنا قبل أن نتحدث عن تحولنا إلى الحقبة الرقمية.

المحور الثالث:

التوصيات والتدخلات الضرورية

رغم قتامة المشهد الإعلامي عربياً، هناك ثمة حاجة ملحة لاعلام وطني مستقل لمواجهة عمليات الإحلال المستمرة التي تسعى من خلالها وسائل إعلام غربية كبرى إلى جانب شبكات التواصل الاجتماعي الأوسع انتشارا للهيمنة على عملية صناعة الإعلام والأخبار، محاولات لتكون هذه الجهات المصدر الوحيد للخبر والمعلومة ،وبذلك يسهل عليها إدارة المجاميع وتشكيل الوعي والآراء والاتجاهات .

الإعلام الوطني ونقصد هنا المحلي الذي يرزح تحت وطأة التغول والإضعاف وضرب مقومات البقاء مهنياً ومالياً - ونقصد بمهنياً :مصداقية الإعلام وحرفيته واستقلاله ،ومالياً بمعنى عمليات إشغال الصحفيين في البحث عن نماذج أعمال وأساليب استدامة وبقاء مستجدة- ،بات على حافة الانهيار وفقدان القدرة على التأثير ،وبذلك تترك جماهيرها نهباً لاعلام موجه له أجندات وجنوح للسيطرة والهيمنة والانتشار والاستحواذ على كامل الفضاء والتحكم بما ينشر وما لا ينشر . تنازل الكثير من العاملين في مهنة الصحافة عن مبادئ المهنة وأخلاقياتها سعيا للخلاص الذاتي المؤقت ، ساهم في تسريع عملية الانتقال، أو للدقة الاعتمادية على مصادر غربية غير أمنية للحصول على الأخبار والمعلومات ، ومتابعة الأحداث والتغطيات، رافق ذلك سعي غربي محموم لطغيان نصهم وصوتهم وصورتهم ، لضمان سيادة السردية الغربية سردية الشمال في مواجهة سردية الجنوب التي يأخذ صوتها بالأفول .

إذا والحالة بهذا البؤس - وهذا ليس حكما قيمياً إنما توصيف لواقع الحال - لا بد من إجراء التداخلات الجراحية الضرورية التالية قبل فوات الأوان :

●الضغط المستمر لتعديل التشريعات التي تتصل بالحريات الصحفية والحريات العامة ، وصولا لحالة نموذجية من إطلاق الحريات العامة والحريات الصحفية. فلا إعلام دون فضاء حرية ولا فضاء حرية دون تشريعات تكفل الحريات وتصون الحقوق .

●تسريع عمليات التحول الرقمي ،واستيعاب إمكانياتها الهائلة في تمكين وسائل الإعلام وتعزيز قدرتهم على الوصول للناس .

●التأكيد على مبادئ المهنة والتمسك بأخلاقياتها ،لأنها الضامن الوحيد لبقائها واستمرار الحاجة لها .

●التحرر من قيود الحكومات ورأس المال ، ومحاولة تبني نماذج أعمال تعتمد على تنويع وتوسيع مصادر الدخل وتطوير أدواتها عن طريق جدران الحماية والتسويق الإلكتروني للمحتوى الجيد.

●صناعة محتوى مختلف وشامل يخاطب جميع الفئات العمرية .

●الدفع باتجاه تأسيس صناديق وطنية لدعم الإعلام المهني ،على قاعدة ان الإعلام هو خدمة عامة ، وهذه الخدمة تحتاج إلى صيانة وحماية ورعاية وطنية ، لتقوم بدورها وتضطلع برسالتها دون ضغوطات رسمية واقتصادية .

●الانتباه للحاجة الملحة لإجراء إزاحات أو تغييرات في آلية عمل المؤسسات الصحفية ،فلم يعد النموذج الهرمي الهيراركي في اختيار المحتوى من قبل رؤساء التحرير وطرائق المعالجة الخبرية التقليدية لهذا المحتوى، ممكنا ومقبولا وقابلا للاستدامة ،لقد بات الجمهور عنصرا أساسيا أو للدقة شريكا مهما في تحديد المحتوى والية عرضه التي قد تتطلب نصا مكتوبا أو سمعيا أو بصريا او على شبكات التواصل ،او الاعتماد على جداول بيانية أو انفوجراف ، ناهيك عن الحاجة للتجاوب الفوري مع الأخبار والتغطيات وصولا لخط تدفق متصل للأخبار ينهي حقبة انتظار الموعد النهائي -موعد إصدار النسخة المطبوعة أو نشرة الأخبار المرئية أو المسموعة في الوقت المحدد مسبقا _

●إدراك الحاجة لتوسيع عناصر غرف الأخبار التي يجب أن تضم إلى جانب المحررين الصحفيين عددا من المتخصصين في تحليل البيانات ورصد شبكات التواصل الاجتماعي وتطوير الويب والمبرمجين والخبراء في التسويق الإلكتروني، تحولات مهمة لا بد من إدماجها في العمل الصحفي اليومي ، تمهيدا للانتقال للرقمنة ،والحديث عن الوصول للصحفي الروبوتي *، هذا الصحفي المختلف "الخارق " الذي يعتمد على الذكاء الاصطناعي* في الكثير من مراحل إنتاج الخبر أو المادة الصحفية .

●تركيز كامل من قبل المؤسسات الصحفية على معرفة الجمهور ،وما طرأ من تحولات في ثقافتهم الاستهلاكية للأخبار، معرفة ما يشغلهم من موضوعات وما يعتمدونه من منصات ووسائط للحصول على الخبر والمعلومة ، معرفة الشكل الأنسب الذي من خلاله يتم فيه تقديم المادة الصحفية .. إن معرفة الجمهور شرط أساسي من شروط التجاوب الذي يضمن البقاء والاستدامة ، وهنا تبرز أبرز أهمية تدريب الجمهور وتعريفهم بالمتغيرات والأنماط والأشكال الجديدة التي تم تبنيها من قبل المؤسسات الصحفية .

●النهوض بمهارات الصحفيين وتطوير أدواتهم من خلال إخضاعهم لبرامج تدريبية مستمرة في التطورات التي تشهدها المهنة ، إلى جانب الاهتمام بضرورة تطوير وتحديث وعصرنة المناهج التي تدرس في كليات الصحافة والإعلام، وضرورة المزاوجة والمواءمة بين مؤهلات الخريجين واحتياجات سوق العمل .

●على مؤسسات المجتمع المدني أن تدرس احتياجات وسائل الإعلام المعرفية والتدريبية ،ودراسة متطلبات المؤسسات الصحفية المحلية في كل بلد بشكل مستقل ، ووضع الخطط المحلية التي تضمن المساهمة الفاعلة في تحسين ادائها ورفع مستوى العاملين فيها.

متطلبات التحول الرقمي

علينا أن ندرك جيداً متطلبات التحول الرقمي ،هذه المتطلبات التي في حال فهمها واستيعابها فإن المؤسسات الصحفية تكون مؤهلة وقادرة على ولوج الحقبة الرقمية ، وهذه المتطلبات الفنية نجملها على النحو التالي:

١- تغيير هيكلية غرف الأخبار على نحو يضمن دخول واندماج المسوق والتقني ومحلل البيانات و المبرمج والمطور والمتخصص بشبكات التواصل إلى جانب الصحفيين ومحرري الأخبار والمراسلين الصحفيين وإدارة التحرير .

٢- تطوير آليات وأساليب جمع المعلومات وتحليلها وتصنيفها وتبويبها ، اعتمادا على قواعد البيانات المتوفرة على الشبكة العنكبوتية ،والمصادر التقليدية الأولية والثانوية ،وبرامج المراسلة والتطبيقات الذكية ، وشبكات التواصل الاجتماعي .

٣- تحري دقة المعلومات من خلال برامج متخصصة ب fact checking ،إلى جانب الوسائل التقليدية الخاصة بتحري الدقة .

٤- إعادة النظر بهيكلية النصوص الإعلامية على نحو يضمن نص اقل ومكثف ، مع الحاجة لتعددية آليات عرض هذه النصوص ،فقد يتطلب الأمر استخدام نصوص مرئية او مسموعة او على شكل "ريل " او بوسترات او بوستات،مع الاهتمام بتكرار العرض لإيصال المعلومات بمختلف الوسائل المتاحة على الإنترنت وشبكات التواصل والتطبيقات الذكية.

٥- الاهتمام بالحاجة الدائمة للعمل عن بعد ، مستخدمين برامج وخصائص الاجتماعات عن بعد عبر الإنترنت وهي عديدة ومتنوعة

٦- استخدام وتوظيف أدوات الذكاء الاصطناعي المختلفة والمتعددة في جميع مراحل إنتاج المادة الصحفية ، والتي قد تتطلب إنتاج برامج داخلية وخارجية لإعداد التقارير وكتابتها ونشرها وتوزيعها والحصول على التغذية الراجعة .

٧- التركيز على أهمية دمج التقنيات التقليدية في انتاج المادة الصحفية بممارسات وأدوات الإعلام الجديد المختلفة .

٨- التجاوب السريع والحرفي مع الحاجة للتغطية المستمرة ، وذلك من خلال تسريع تنفيذ التقنيات الرقمية في غرف الأخبار والتفاعل الكامل بين عناصر العمل في غرف الأخبار .

٩- مراقبة العمل عبر الإنترنت ، ونقصد هنا مراقبة فرق العمل من جهة ، ومراقبة الجمهور ردود فعل واتجاهاتهم من جهة أخرى ،وهذا الأخير قد يتطلب إعداد برامج لتحليل اتجاهات الجمهور وتطوير أدوات الاستماع لهم عبر شبكات التواصل الاجتماعي ومن خلال محركات البحث ايضاً . أن تتبع اتجاهات الجمهور مهم جدا لاقتراح الزوايا التحريرية في التغطية وموازنة جدول أعمال القصص الصحفية .

١٠- تحفيز الموظفين الدائم ، ووضع آليات واضحة ومستقرة للمكافآت في حالة قدم أحد أعضاء فريق العمل جهد نوعي ساهم في إنتاج محتوى أصيل مختلف لاقى إعجاب وثناء الجمهور .

١١- إنتاج برامج مفتوحة لأتمتة الكتابة الصحفية ، من خلال قوالب اللغة التكرارية *.

١٢- توفير ترجمة الأخبار والإحصائيات من خلال برامج الذكاء الاصطناعي للجمهور والصحفيين .

١٣- محو الأمية التكنولوجية للعاملين في المؤسسة الصحفية والمساهمة في تثقيف الجمهور بالتقنيات والبرامج والتطبيقات الجديدة .

١٤- البحث عن نماذج أعمال وتمويل او صناديق دعم تضمن استدامة المؤسسات الصحفية .

الخاتمة

ويبقى أن نسأل هل نحن قادرون فعلاً على إعادة قاطرة الإعلام الى سيرتها الأولى ؟! الجواب ، قطعا لا ، فالانطباع عندما يتشكل يصعب تغييره .. لذلك قالوا إن الانطباع أقوى من الحقيقة …الإعلام العربي تعرض لضربات موجعة، وأخذ في كل محطة أو مفصل يخسر بعضاً من مصداقيته، واضطر أن يساوم و يقايض، حتى وصل في نهاية المطاف إلى حالة متقدمة من الوهن والمرض . أن إنعاش هذا الجسد ليس عملية سهلة ، وتحتاج إلى وقت طويل وجهد مضاعف ومعالجات مستحدثة وابداعية .فهل نحن جاهزون لهذه المعركة ؟!!

الصحفيون في العالم العربي والجنوب عموماً ، عليهم أن يخوضوا مع الخائضين ، أن يتحرروا من القوالب التقليدية ، في عالم بات يغذّ الخطى نحو تغيير شكل الصحافة التي نعرف ، ذلك بالضرورة بعد أن يتصالحوا من جديد مع قواعد المهنة التي ساوموا عليها ، وتنازلوا عنها خوفاً وطمعاً وربما استجابة لضغوطات سياسية واقتصادية حولت عملهم إلى جحيم مهني مقيم .

المؤسسات الصحفية الكبرى الممولة، ذات الإمكانات المالية المفتوحة في دول الجنوب، المدعومة من حكومات أو رأس مال كبير ساهمت بقصد أو بدون قصد في إضعاف وسائل الإعلام المستقلة وضرب صناعة الإعلام في مقتل. منافسة هذه المؤسسات ضرب من العبث ، وضمان حضور وتأثير لدى الجماهير العريضة بات حلماً بعيد المنال ، حالة من انسداد الأفق تلقي بظلالها الثقيلة على القابضين على جمر المهنة ..

السقوط المهني المدوي لإعلام الشمال وانكشاف انحيازاته وادعاءاته وتبدي أجندته ، وكيف أنه تحول الى سلاح فتاك وأداة تضليل ممنهجة بيد الساسة والعسكر ورأس المال، ضاعف من الضغوطات على العاملين في مهنة الصحافة في دول الجنوب ، ففي الوقت الذي تداعت فيه هذه الحصون المهنية العريقة -أو التي كنا نتوهم أنها مهنية وعريقة - بعد السابع من أكتوبر ٢٠٢٣، وتحولت إلى أدوات طيعة بيد الساسة والعسكر ،كيف ستقبل حكومات الجنوب اعلاما مستقلا متمسكا بمبادئ الصحافة التي هجرها منظروها أنفسهم في الغرب ؟!!

الصحافة تحتضر ، وما الإقبال الجماهيري العريض في الشمال والجنوب على شبكات التواصل الاجتماعي والاعتماد الكلي عليها كمصدر للأخبار والأحداث والمعرفة ،إلا مؤشرٌ على انحسار المهنة وتراجع مكانتها ودورها وتأثيرها ..

هذا الاحتضار المهني يمكن تداركه ، وذلك لا يتأتى إلا من خلال العودة إلى الأصول والثوابت والمبادئ الصحفية وديناميكية التعاطي الإيجابي مع التحولات الرقمية ،الى جانب اسحب البساط من تحت أقدام أولئك الذين يحاولون أن يركبوا المهنة ويتعاملون معها كمطية ، أو أداة لهندسة الجمهور وغسل أدمغتهم والعبث بآرائهم واتجاهاتهم وقناعاتهم، وهذه تكاد تكون مهمة مستحيلة ضمن المعطيات الحالية .

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق