صفقة القرن: الشيطان في المبدأ وليس التفاصيل! #عاجل - أرض المملكة

0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف
جو 24 :

كتب كمال ميرزا - 

بالنسبة لنا كعرب ومسلمين، الحديث عمّا تسمّى "صفقة القرن" ليس حديثاً اقتصاديّاً، ولا ينبغي أن يكون حديثاً اقتصاديّاً؛ الحديث عن صفقة القرن يجب أن يكون حديثاً عَقَديّاً إيديولوجيّاً سياسيّاً.

الشيطان هنا ليس في التفاصيل كما يقول التعبير الشائع، الشيطان هنا في المبدأ نفسه!

الحديث عن صفقة القرن اقتصاديّاً يكرّس فكرة أنّها صفقة بالفعل: بيع وشراء!

المشكلة أنّ هذه "النظرة للعالم"، أي العالم كسوق، والحياة كـ "بزنس"، وأولويّة ما هو اقتصاديّ وماديّ ونفعيّ على أي اعتبار آخر.. هي الرؤية الكامنة التي يستبطنها سواد الناس هذه الأيام من حيث يعلمون ولا يعلمون حتى في أبسط تفاصيل حياتهم وعلاقاتهم اليوميّة: المتعلّم قبل الجاهل، والمثقّف قبل العاميّ، والمُتديّن قبل غير المتديّن، واليساريّ قبل غير اليساريّ، والمجاهد قبل غير المجاهد، والثورجيّ قبل غير الثورجيّ، و"الوطنيّ" والمطبّل والمسحّج قبل "غير الوطنيّ" والناقد والمُعارِض!

البعض يبرّرون ذلك باسم "العقلانيّة" و"الموضوعيّة" و"فن الممكن"، والغالبيّة يبرّرونه باسم "الأمر الواقع".. و"بدنا نعيش".. و"الكف ما بتناطح مخرز".. و"إذا جن ربعك عقلك ما بنفعك".. و"حط راسك بين الروس وقول يا قطّاع الروس".. و"إلّي بتجوّز أمّي بقله يا عمّي"!

وإذا استفلس واحدنا أو أراد أن يُظهر شيئاً من التقوى والورع الكاذبَين يزرعها بذقن التسليم بمفهوم مشوّه ومحرّف لـ "القضاء والقدر"!

نعم، سياسات وبرامج وإجراءات وترتيبات كثيرة تمّ فرضها وتطبيقها وتنفيذها وتكريسها طوال العقود الثلاثة الماضية، على يد أنظمة ومؤسسات أمميّة ودوليّة ومنظمات تعاون ومانحين وداعمين ووكلاء وعملاء وسماسرة محليّين ونخب محليّة مصنّعة أو متغرّبة، من أجل فرض "التسوية النهائيّة" و"الحلّ النهائيّ" وتصفية القضيّة الفلسطينيّة بسيف "الأمر الواقع" والخيار "العقلانيّ" و"الموضوعيّ"، وعبر بوابة "الطفر" و"الضنك" و"العَوَز الاقتصاديّ" و"الاعتماديّة الاقتصاديّة" (وبموازاة ذلك الابتزاز باسم الأمن والأمان)، خاصة في الدول والمجتمعات المعنيّة مباشرةً، والتي هي على تماس مباشر مع "القضيّة" وما يُحاك لها، مثل الفلسطينيّين أنفسهم في الداخل والضفّة وغزّة والشتات، والأردنيّين، والمصريّين، والسوريّين، واللبنانيّين.. ولكن أوّلاً وأخيراً نجاح كلّ هذا منوط بمدى استعداد هذه الدول والمجتمعات للقبول بهذه المخططات والاستسلام لها والتماهي معها!

بالنسبة لكلمات برّاقة ولامعة ومبهرجة مثل "العقلانيّة" و"الموضوعيّة" و"الواقعيّة"، والتي سنشهد استخداماً متزايداً لها عبر الخطاب الرسميّ والإعلاميّ من قِبَل مسؤولين وسياسيّين وخبراء ومحلّلين من أجل الالتفاف على زخم "المقاومة" و"طوفان الأقصى" واستحقاقاتهما، وتسويغ الرضوخ شيئاً فشيئاً للمخطّطات الصهيو - أمريكيّة وتصريحات "ترامب" الأخيرة.. فإنّ الغالبيّة يُغفلون أنّ المعنى والفهم الراسخ لهذه المصطلحات "الحداثيّة" الرنّانة لا يخرج هو الآخر عن إطار المرجعيّة الماديّة وأولويّة كلّ ما هو اقتصاديّ ونفعيّ وذرائعيّ!

فالعقلانيّة حسب لغة هذه الأيام تعني كلّ ما يحقّق المنفعة الماديّة الآن وهنا بالمعنى المباشر لكلمة ماديّة (بعيداً عن أي غايات نهائيّة ومثاليّات وغيبيّات)..

والموضوعيّة تعني الالتزام بحدود الموضوع وحقائقه الماديّة والشكليّة والظاهريّة (بعيداً عن أي قيم ومبادئ ومعايير مجرّدة ومتسامية ومتجاوزة وفي مقدمتها الدين)..

والواقعيّة تعني العيش في اللحظة (بعيداً عن عبء التجربة التاريخيّة للإنسان ماضياً ومستقبلاً، وعبء المسؤوليّة الأخلاقيّة)..

ولكن للأسف، وهنا بيت القصيد، وهنا رهان العدو الأول، لا أحد منّا يريد حقيقةً أن يقرأ ويفهم ويعي، ولا أحد منّا يريد أن يتحمّل تبعات ما قرأ وفهم ووعي، لماذا؟ لأنّ القيم والمبادئ هذه الأيام، بالنسبة للحكّام والساسة والنخب والعوام على حدّ سواء، وفي مقدّمتها القيم الدينيّة، "ما بتطعمي خبز"!

بالعودة إلى "صفقة القرن"، يجهل الغالبية أن المسمّى الأصلي للوثيقة التي أطلقها "ترامب" أبّان ولايته الأولى، وبحضور مجرم الحرب "نتنياهو"، كان "السلام من أجل الازدهار"، أي أنّ "صفقة القرن" هو ليس الاسم الرسميّ بل الاسم الدعائيّ أو "المجازيّ" الذي تمّ تكريسه لهذا المخطّط الشيطانيّ وذلك بهدف:

أولاً: تسهيل ترويجه وتسويقه..

ثانياً: تكريس فكرة وثيمة "الصفقة" والبيع والشراء كما سبقت الإشارة..

ثالثاً: عدم الاضطرار لتكرار كلمة "السلام" كثيراً بعد أن عُهّرت هذه الكلمة وأُفرغت من مضمونها وفقدت وقْعها وأثرها منذ وقت طويل (حتى بالمعنى الدينيّ)، وبعد أن رأى الجميع بأمّ أعينهم مفهوم الأمريكيّ والصهيونيّ لما هو "سلام".

رابعاً: لعدم إلزام النفس بوعود "الازدهار"، بكون الازدهار في عالم الفردوس الرأسماليّ الصهيونيّ الاستعماريّ الأرضيّ هو "حقّ حصري" متاح فقط لفئة محدودة من البشر، أو الـ "سوبر بشر"، وليس لعموم الناس أو "الأغيار" أو "الغوييم" أو "الحيوانات البشريّة"!

مرّة أخرى، شيطان "صفقة القرن" في المبدأ نفسه، وليس في تفاصيل هذه الصفقة. وبالنسبة لمن يغريهم مجاز "الصفقة" بحدّ ذاته، فيفترض أنّ لدينا في عقيدتنا وثقافتنا وموروثنا مجازنا الخاص لما ينبغي أن تكون عليه الصفقات:

((إنّ الله اشترى من المؤمنين أنفسَهم وأموالَهم بأنّ لهم الجنّة يقاتلون في سبيل الله فيقتُلُون ويُقتَلون وعداً عليه حقّاً في التوراة والإنجيل والقرآن ومن أوفى بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم)) التوبة - 111.

الإيجابيّة الوحيدة لمسمّى "صفقة القرن" هو أنّه يذكّرنا بأنّ السبب الرئيسيّ (الذي نصرّ على تناسيه وإغفاله) وراء كلّ ما يحدث هو صراع قذر على مصالح اقتصاديّة وماديّة أقذر: نفط وغاز وأسواق وثروات ومقدّرات شعوب وفوائض سيولة وموانئ وطرق تجارة وأيدي عاملة رخيصة وهيمنة وتبعيّة واستلاب لصالح أفراد وأُسر ومحافل ولوبيّات وتكتّلات وبنوك وصناديق سياديّة وشركات عابرة للقارّات.. وأنّ كلّ الحديث عن السلام والتسامح والتعايش والازدهار والأخوّة الإبراهيميّة ونشر الديمقراطيّة والحريّة (وحتى الثورة والجهاد على طريقة ثوّار الناتو ومجاهدي البترو ـ دولار وفاتحي الباب العالي) جميعها محض أكاذيب وذرائع وهراء.. والكارثة عندما ينجرف أصحاب مبادئ، خاصة أولئك الذين يعتبرون أنفسهم متديّنين، أفراداً وجماعات وشعوباً، وراء مثل هذه المصالح والحسابات القذرة!

القبول بصفقة القرن خيانة ونقطة.. هكذا يجب أن يكون النقاش الدائر!

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق