في صباح هذا الصقيع السيبيري ،الجامودة ـ على رأي الفلاحين ـ ، عادت إلي الذاكرة لما قبل ثلاثين عامًا ، كنا نجلس قبيل المغرب خلف دكان العم الحج محمد ، ونحن نلهوا على ساحة بيادر جدي العتيقة ، كان العم "أبو غالب " ، يرتدي فروته السوداء ، وهو طاق لصمة الشماغ فوق أنفه ، قال لنا :" يا عيال ، هي عجب هيه ، روحوا دورولي تنكة كبيرة ولموا حطب "، ركضنا جميعًا للفوز برضا العم نواف العصبي ، وتبعثرنا بين البيوت وعلى أكوام القمامة قبل اختراع البلديات ،والحاويات ، وسيارات القمامة الضاغطة ، وعندما أحضرنا كل ما أراده العم أبو غالب ، أردنا أن نشعل النار ، فقال لنا :" يا عيال ، أنا خبرة رعية وسراحة عشرين سنة "، ثم تناول كيس طحين فارغ من البلاستيك الأبيض وأشعله ، فكما يقال هبرجت النار ، وأخذت تقضم كل الحطب الذي جمعناه ، جلسنا حولها نسترق من دفئها ما أتيح لنا ونحن ما بين مطرقة البرد وعصبية العم نواف غير المضمونة أو المرتهنة بوقت ما ، كانت أعيننا يصيبها العمى المؤقت، وأنوفنا شلالات من السيلان اللإرادي ، ورائحة دخان النار تعبق بملابسنا الوحيدة للعب والنوم والدوام والرعية.
اليوم وأنا أسترق الحكايات من إطفالي الذين رووها لي بين حكة عيونهم ، وزكام أنوفهم ، كانت خدودهم تكتسي باللون الأزرق المشرب بالحمرة ، كانت حكاياتهم المدرسية تدور بينهم بالمفاضلة ما بين فتيلة صوبة الصف الفلاني المتفحمة ، وبين لون صوبة الكاز الحمراء اللامعة ، كان الدفء في هذا اليوم يلغي أناقة مدافىء الكاز ، ومنهم من قال إحنا صوبتنا كل ما نولعها تطفي .
بدائية تعبئة المدافىء بالكاز ، تعيد لي ذاكرة كيف كانت أمي، وجدتي ،ونساء أعمامي ، وكل نساء الحارة ، عندما كنَّ يملأن مصابيح الكاز من زجاجة لا تتجاوز النصف لتر وغطاؤها حبة تمر ،أو قطعة خيش ، او خرقة بالية، حتى المدافىء كانت أكثر شعورًا بفقرنا ، كانت اقتصادية نوعًا ما ، لدرجة أن اخي طلال كان يعشق الإلتصاق بالصوبة ، حتى أنه كلما أحضر له والدي معطفًا ثقيلًا من أكوام البالة ، كان يجب على أخي أن يختمه بعلامة الجودة ؛ حين يلتصق بمدفأة علاء الدين الكاز ، فتصلي معطفه ويتوشح باللون البني المائل للسواد ، حتى أذكر أن أمي ــ رحمها الله ـ كانت قد تقول له يا جوز الصوبة.
ما بين طقطقة موقد الصفيح لعمي نواف ، وبدائية مصابيح الكاز ، وما بين لغة الخشب الهامشي واللهب ؛ تطحن رحى رأسي كمية رجعيتنا الرقمية ، وتخلفنا "الديجيتالي" ، حين يتعاقب وزراء تربية وتعليم على كل هذه المشاهد القاسية ، وهم ينظرون من نوافذ مكاتبهم للريح ،والمطر والثلج بين أحضان التدفئة المركزية ونعيم المكيفات ، وينضخون القرارات غير الواعية وغير المدركة لتراكمات التخلف وأكوام المشكلات ، حين لا زالت مدارس التربية والتعليم وخاصةً مدارس القرى البعيدة عن قلب عمان وعين المسؤول بأنه يتم تزويدها بكميات شحيحة من الكاز ، ومدافىء تفتقر لأقل درجات السلامة الصحية والعامة لأطفالنا ، ناسخين بعرض الحائط المقولة التقليدية:" العقل السليم في الجسم السليم" .
حاولوا عبثًا تحديث أنظمة التعليم الفضائية لأطفال يتفنون ببراعة النفخ في قبضات أيديهم لجلب المزيد من الدفء من ثاني أكسيد صدورهم النقية البيضاء ، حاولوا تشويه صورة المعلم ، وتضييق الخناق على كل تفاصيل حياته المهنية ، حاولوا شيطنة أشرف مهنة على وجه الأرض بأنها طبقة كامنة مثل الماغما البركانية إذا ما تم ترك المجال لها ؛ لكنهم بذات الوقت لا زالوا يترنحون ببدائيات التطبيق ، لا زال النظام اليدوي المهترىء والبالي هو الإطار لكل هذه التبعية في السياسات والرجعية في التطبيق .
تسعٌ وأربعون سنةً مرت على رسالة عادل إمام في مسرحية ( شاهد ما شافش حاجة ) ، حين سطر لنا حكمة من جزمته التي كان يرتديها في السينما ، حين قال: " وجه مدير الأمن ووزير الداخلية ورئيس الوزرا وانا اعييييط " ، وعندما سأله الحريري :" كل ده يا ابني من تأثرك بالفيلم؟" ، فقال له عادل إمام:" فيلم أيييييه ! دي الجزمة كانت ديئة" .
إذا كانت جزمة عادل إمام أبكته وعيطته وتدخلت كل الدولة نظريًا ولم توقف حزنه وألمه ، فمن يستطيع أن يذب ثاني أكسيد الكاز المدرسي التربوي عن صدور أبنائنا التي تكلفنا الكثير الكثير في علاج وإصلاح أجهزتهم التنفسية التي أفسدتها مدافىء التخلف البدائية؟.
فمن يعيد لنا ترميم الصورة النمطية لوزارة التعمية والتعتيم ، التي تثبت عجزها وهشاشة تخطيطها عندما تتبع سياسة التعطيل والتأجيل ، فلو كانت الوزارة تثق بأدواتها ودورها الحقيقي في تأمين بيئة تعليمية صحيحة ؛ لكانت شددت على التسيب والتعطيل لكل طالب يتغيب بمزاجيته أو خشية الظروف الشتوية .
معادلة إصلاح العملية التربوية ؛ هي إعادة الأدوار الصحيحة بدءًا من المعلم ، ومرورًا بضبط نظام الطلبة بصرامة وحزم ، وكذلك في تفعيل الزيارات الميدانية المفاجئة من قبل أرفع المستويات على المدارس المحظوظة بالتهميش والنسيان والبعد .
أخبار متعلقة :