الكلمات كالسهام، بعضها يصيب الهدف، وبعضها يضيع في الهواء بلا أثر. أن تتحدث قليلًا وتقول كثيرًا هو فن لا يجيده إلا من فهم قيمة الصمت. في زحمة العبارات الطويلة التي تثقل المعاني، تصبح الجملة الموجزة بالنسبة لك أشبه بنقطة ضوء في غرفة مظلمة.

ذات يوم، كنت أتجول بين أروقة معرض القاهرة الدولي للكتاب، أبحث عن كتاب صغير يعيد ترتيب أفكاري. وجدت كتابًا بعنوان: "كيف تقول ما تريد؟" كان صغير الحجم، لكنه امتلأ بنصائح تحمل فلسفة عميقة. يقول مؤلفه إن الكلمات مثل الحجر الكريم، قيمتها ليست في حجمها، بل في نقائها. أدركت حينها أن المعاني العظيمة تحتاج إلى كلمات بسيطة، وأن المبالغة في التعبير قد تشوّه فكرتك بدلًا من أن تبرزها.

الإيجاز فن يمكنك تعلمه من خلال العديد من التجارب، ومنها ما تركه لنا النبي صلى الله عليه وسلم. فقد قال صلى الله عليه وسلم: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت" (رواه البخاري ومسلم). بكلمات موجزة، جعل الكلمة مسؤولية أخلاقية، إما أن تقول الخير أو تصمت عن الشر. وفي حديث آخر قال صلى الله عليه وسلم: "الدين النصيحة" قيل: لمن؟ قال: "لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم" (رواه مسلم). هكذا اختصر جوهر الرسالة الإسلامية في عبارة صغيرة تحمل في طياتها حياة كاملة من الحب والصدق والتوجيه.

الكلمة عندما تخرج من القلب، لا تحتاج إلى زخرفة أو إطناب. ربما تتفق مع تشرشل حين قال: "يجب أن يكون الخطاب مثل تنورة المرأة، طويلًا بما يكفي لتغطية الموضوع، وقصيرًا بما يكفي لإثارة الاهتمام." هذه الحكمة تلخص فن الإيجاز الذي يجعل الكلمة أكثر تأثيرًا وأعمق أثرًا.

الإيجاز ليس مجرد حذف للكلمات، بل هو شجاعة في مواجهة نفسك لتسأل: ما الذي تريده حقًا؟ وما الكلمات التي تحتاجها فقط؟ كتب مارك توين ذات مرة: "لم أملك الوقت الكافي لكتابة خطاب قصير، فكتبت خطابًا طويلًا." فالاختصار يتطلب وقتًا وجهدًا لا يستهان بهما، لأن كل كلمة تُختار بعناية تحمل وزنًا ومعنى.

التاريخ يحتفظ بالكلمات الموجزة. الخطابات الطويلة تُنسى، أما الجمل البسيطة التي تحمل الحكمة والصدق فتبقى خالدة. في لحظة حب، قد تختصر كلمة "أحبك" مئات الصفحات. وفي لحظة ندم، قد يكون "آسف" هو كل ما يحتاجه القلب ليغفر.

أن نقول الكثير في القليل هو فن لا يُجيده إلا من يعرف قيمة الكلمة. الكلمات الزائدة تضيع المعنى، كما أن الألوان المفرطة تُفسد اللوحة. أن نكون موجزين يعني أن نقول الحقيقة بوضوح، بلا تزويق أو مبالغة.

في النهاية، لا تحتاج إلى كلمات كثيرة لتُفهم، بل تحتاج إلى كلمات صادقة وعميقة. الكلمات التي تنبض بالصدق هي التي تبقى في الذاكرة. اختر كلماتك كما تختار الجواهر، واصنع بها عالمًا صغيرًا يترك أثرًا لا يزول.